لعنة الصحوة !!

مع نشأة هذه البلاد  وظهور سمات الدولة المدنية أخذت الصبغة الثقافية لهـذا الوطن بتشكيل طابعها الخاص والذي يحمل في مكونه العميق فسيفساء ثقافية جميلة على مساحة جيوغرافية شاسعة . ولكن للأسف، كانت تلك التنمية الحضارية تصطدم بجبال جليدية من التوجه الديني المتطرف.

في مطلع ستينات القرن الماضي خرجت علينا "كائنات" قادمة من الماضي ليس لها أي صلة بواقع العصر سوى أن لعنة الأقدار جاءت بهم إلى هنا وفي هذا الزمان تحديداً. فأصبحت تحرم أي شيء لا تجده في أدبيات عصرها الذي يعود لحقبة القرون  الوسطى والتي ما زالت أحداثها وبكل تفاصيلها تقبع في مخيلتهم الضحلة والعالقة في تلك العصور الموغلة في القدم.

بدأت تلك الكائنات برفض كل ما هو جديد لتشمل معظم ما أنجزه العقل البشري من اختراعات وتكنولوجيا حديثة، ففي البدء كان التحريم لجهاز إرسال البرقيات، ثم الراديو، (كونه حديدة تضاهي قدرة الله في إنطاق العباد)!! ثم التلفزيون، مرورا بأجهزة الفيديو، وأطباق الاستقبال الفضائي (لأنها تسهل مخطط الغزو الثقافي الغربي)!! وليس انتهاءً بالهواتف المزودة بكاميرات (لأنها تكشف عورات المسلمين)!! ومن ثم استخدام المرأة للأنترنت والبريد الالكتروني ووسائل التواصل الاجتماعية التي و على حد زعمهم  تفضي الى الإختلاط والسفور لدرجة  أن بعض المتفيقهين اشترط وجود محرم للمرأة إن هي اختلت بالانترنت!!

إن هذه الكائنات "المستحاثة" لم تندس خفية بين ثنايا المجتمع لتظهر فجأة، بل أعلنت عن وجودها وبعنف من خلال أحداث عدة أبرزها "حادثة مبنى التلفزيون"  عام 1965م والتي قادها الأمير خالد بن مساعد (الأخ الأكبر لقاتل الملك فيصل رحمه الله) حيث كان يرى  أن التلفزيون والسينما  (التي كانت مسموحة آنذاك) خطر على الأمة الإسلامية. فقام مع بعض من المتطرفين بالهجوم على مبنى التلفزيون السعودي في الرياض  الأمر الذي أدى إلى مقتله في عملية إعتقاله بعد ذلك.

الحادثة الأخرى كانت لها صدى أكبر وأوسع وهي حادثة اقتحام واحتلال الحرم المكي الشريف عام 1979م  والتي قامت بها الجماعة السلفية المحتسبة أو ما تعرف بالجهيمانية والتي اعتبرها البعض امتداد فكرياً للإخوان القدماء (إخوان من طاع الله)* وهذا ما أشار إليه أيضا جهيمان نفسه في إحدى أشهر رسائله وهي رسالة الإمامة والبيعة والطاعة وذكر ذلك أيضا فهد القحطاني في كتاب زلزال جهيمان.

* هامش: إخوان من طاع الله: مجموعة متطرفة من البدو تمردوا على جيش الملك عبدالعزيز وقاموا بالإعتداء على بادية العراق والكويت بدعوى الجهاد كما تظهر شروط الصلح في معركة الجهراء (الإسلام ومنع التدخين والمنكرات وتكفير الأتراك!!) ولكن الملك عبدالعزيز  وضع حداً لؤلائك المتطرفين في موقعة السبلة وهزيمتهم و تدمير هجرة الغطغط التي كانت أكبر هجرهم .

ولكن رغم أحداث الحرم المكي الشريف وإعدام جهيمان ومعه 61 فردا من الجماعة إلا أن الثمانينات شهدت تغيرا كبيرا في المشهد الثقافي للبلاد وبرز ذلك التغيير في الإعلام السعودي ومناهج التعليم ولغة المنابر الخطابية التحريضية والتي ازدادت غلواً وتطرفاً (عرفت تلك الفترة بعد ذلك بالصحوة الإسلامية). 
في منتصف الثمانينات وجدت هذه "الصحوة"  دعماً حكومياً كبيراً برز في الدعم اللوجستي للمجاهدين الأفغان!! حتى وصل الى نصرتهم بالمال والرجال لصد التمدد الشيوعي الذي كان يعكر صفو الصديقة أمريكا. ولتتصدر بعد ذلك قصص الجهاد وكرامات المجاهدين المشهد بالكامل ويختطف المتشددون المنابر والمؤسسات الخيرية وجهاز التعليم بأكمله. وما هي إلا بضع سنوات حتى استشرى ذلك الورم  في جسد الثقافة السعودي . 

بعد انتهاء الاحتلال الروسي لأفغانستان ومرورا بعاصفة الصحراء التي عصفت بالجيش العراقي عقب احتلاله لدولة الكويت عام 1990م حاولت تلك الكائنات إيجاد ساحة أخرى  لتمارس عبثها بجهادها المزعوم فانتشرت في طاجاكستان وبلاد القوقاز والبوسنة والهرسك. خلال تلك الفترة  تحديدا، استمر في الداخل السعودي عملية تشوية المجتمع من خلال جهاز التعليم والإعلام والمساجد لجيل كامل!! وقتل كل ماهو جميل والتضييق على كل ما يبعث بالحياة في النفس البشرية فقد كان سعيهم حثيثا لإرجاع الحياة إلى عقود مضت لا تمت إلى واقعنا المعاصر بصلة!!

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقيام هؤلاء المتطرفين بالإفساد في الأرض تحولت أنظار العالم أجمع الى الداخل السعودي لينبشوا في ماضي هذه الكائنات التي انتشر وباؤها في أصقاع الأرض. وما إن ضاقت  الدول والمجتمعات بغلوهم وتطرفهم حتى طردوهم ، فعاد كل من شارك في محارق القتال المقدس الى أرض الوطن مغتربين!!
حاولت الدولة بعد ذلك  وعلى "استحياء" إعادة تأهيلهم أملاً في اصلاحهم من خلال لجان "المناصحة" فإذا بها تعيد تدوير ما أنتجته دور النشء المختطفة منذ عقود . فقلبوا لها ظهر المجن وأخذوا يعيثون فيها فسادا بسلسة من عمليات الغدر المنظم تحت مسمى "قاعدة الجهاد في بلاد الحرمين" التي أسسها يوسف العييري ثم قادها عبدالعزيز المقرن بعد ذلك.

في الحقيقة ، إن هذه الكائنات (حنبلية المشرب والمذهب) لا ينفع فيها طب ولا تطبيب  لأنها تتغذى دائما على قضايا الأمة فتستوطن عقول البسطاء والسفهاء فتنهش في جسد من يحتضنها حتى تدمره بالكامل كما فعلت في آفغانستان والشيشان والعراق وسوريا. وللأسف، ماتزال تلك الطفيليات تستشري في جسد الوطن وستظل كذلك!! لأنها وببساطة لا علاقة لها بالواقع  ولا تملك أي مشروع للحياة  فهي عالقة في غياهب الماضي وتسوق دائما لثقافة الموت وشهوات ماوراء الخراب.

إن تلك الحقبة التي سرقها المتطرفون في غفلة من التاريخ  تركت بوناً شاسعاً بيننا وبين الأمم التي سبقتنا بعقود وخلفت لنا جيلاً مشوهاً ألقته بيننا سفاحاً بعد أن التقي عهر الساسة  بشبق رجال الدين فأنجبت لنا القاعدة وداعش والنصرة وأخواتها كأمثلة حية لاستبداد رجال الدين على المدارس والمنابر والقضاء والإعلام  وكل مفاصل الحياة. 
 لقد جثمت "لعنة الصحوة" على كاهل الوطن عقودا آسنة لتمر البلاد في فترة من الركود والرجعية والانغلاق.  إن تلك الصحوة ماهي إلا صحوة الشيطان جلبت لنا الخراب والدمار وويلات حروب ولعنات تلاحقنا الى يوم الدين .

مراجع ومصادر إضافية مهمة:

1. الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب . توماس هيغهامر،الشبكة العربية للأبحاث والنشر2010.
2. زمن الصحوة، "الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية"، ستيفان لاكروا ،الشبكة العربية للأبحاث والنشر2011.
3. حتى لا يعود جهيمان : حفريات أيديولوجية وملاحق وثائقية نادرة. ستيفان لاكروا, توماس هيغهامر. منتدى المعارف2011. 
4. الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة، خالد الدخيل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر2013.
5. حكاية التدين السعودي ، وحيد الغامدي، طوى للثقافة والنشر والإعلام 2015 .
6. ما بعد الصحوة : تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد. عبد الله الغذامي. المركز الثقافي العربي 2015.
7. تقرير صحيقة الرياض : « الرادو » في الخمسينيات « رجس » وسماعه « جريمة » ومن يقتنيه « فاجر »
8. Saudi Arabia before the 1980s

9. وثائقي كيف واجهت السعودية القاعدة !!