الليبرالية السعودية و طور الشرنقة

الليبرالية السعودية و طور الشرنقة

خلال فترة قد مضت  كنا نتعاطى سنين عددا مع وسائل إعلامية وثقافية محدودة جدا..

فإما قناتين تعيستين كنا نطلق عليها تندراً غصب ١و٢ .. أو صحف رسمية باهته تسوء قارئها ولا تعبر عن نبضه .. أو أندية أدبية كانت محصورة على النخبويين فكانت الصالونات الثقافية تهدف فقط الى مزيد من "الترزز" والوجاهة الإجتماعية ليس إلا !!

وفوق هذا وذاك .. كانت فترة الثمانينات والتسعينات محكومة بتيار راديكالي متطرف يرى في نفسه النقاء والكمال وان ما لديه هو الطاهر المقدس و ما عند غيره نجس و رجس من عمل الغرب !! وأن بيده انقاذ الأمة من الضلال الذي حل بها بعد غيبوبة وبعد عن الحق لذلك أسمت تلك الفترة ب"الصحوة الإسلامية "!!

ولكن بعد ثلاث عقود من الإستعباد الديني اكتشف جيل كامل أن تلك الصحوة لم تكن إلا غفلة حاولت أن تجر الماضي من القرن السابع الى القرن الواحد العشرين في كل شيء!!
ولأن فطرة الإنسان وأفئدة الناس تهوي الى ما هو حديث .. وأن  التطور هو سنة الله في الأرض لذلك شكلت رجعية "الصحوة" ردة فعل مساوية في المقدار و معاكسة لها في الاتجاه لتشكل رأياً معاكساً، ولكن لم تظهر تلك الأراء للعلن كتيار ثقافي مستقل بسبب أن استبداد وتسلط المؤسسة الدينية على جهازي التعليم والإعلام فكان المجتمع  مختطف (فكرياً) و يرفض كل طرح مضاد لآيدولوجيات الصحوة لأنها تعتبر الصحوة هي "الإسلام الخالص"!! فكان لابد من حدوث أمر يحرك المياه الراكدة و يغير معه رتابة ذلك الحراك الرجعي إلى الأبد ..

وبالفعل، جاءت ثورة التكنولوجيا والإعلام لتفك قيد المجتمع وتطلق سراحه..  فبدأت ثورة التواصل الاجتماعي من خلال شبكة الانترنت والمنتديات الحوارية . حيث أنشأ طالب اماراتي (طارق فارس) منتدى اشتهر بإسم (الساحات) عام 1997م ليكون أول موقع عربي يقدم خدمة المنتديات الحوارية.

 تبعت منتديات الساحات محاولات كثيرة لتقليدها عربيا كبوابة العرب، و الساخر، وغيرها ولكن محليا برزت شبكة الاقلاع في 1999م لكن لم تنافس شبكة الاقلاع بشكل قوي لأنه كان يحمل شعار (ممنوع الكلام في الدين والسياسة، فصحى ما نبي ، واللي يخالف الشروط نقفل يوزره) بطبيعة الحال هذا لم يعجب التوجه الجديد المضاد للتيار الصحوي (الراديكالي المحافظ). حيث كان يبحث التيار الليبرالي الحر عن مكان يعلو سقف حريته بعدي الدين والسياسة لأن قدس الأقداس عند هذا التيار هي الحرية ذاتها .

أنتظرت الأقلام الليبرالية طويلا خصوصا بعد ان احكم التيار الراديكالي المتطرف على منتدى الساحات و الوسطية والسقيفة والفجر حتى  دشن  الإعلامي المرموق عثمان العمير أول منتدى ليبرالي سعودي تحت مسمى "ندوة إيلاف" الذي أصبح المتنفس الوحيد للأقلام الليبرالية السعودية التي إلتقت  بمعرفات حقيقية و مستعارة .

ولكن بعد سنة تقريبا ظهر منتدى طوى تجاوز سقف حريته كل الخطوط الحمراء ولكنه جعل من معارضته للنظامين السياسي والديني سمة له فكان سببا لحجبه بعد حين . في عام 2004م  ظهر منتدى"دار الندوة" تطابق مع طوى في معارضته للمؤسسة الدينية ولكنه إرتمى بدهاء في أحضان النظام السياسي وذلك برفعه لشعار(الوطن أولاً).

ولكن بعد تعرض منتدى دارالندوة للقرصنة "الجهادية" والحجب المتكرر تأسس منتدى ليبرالي أخر في اواخر عام 2005 م ولكن هذه المرة بأسمها الصريح (منتدياتنا - الشبكة الليبرالية السعودية  ) فسجل عدد قراءات كبيرة جدا لمواضيعه وتفاعل غير مسبوق. حيث شارك بمنتدى الشبكة الليبرالية كتاب محسوبين على التيار الليبرالي باسمائهم الصريحة منهم تركي الحمد و عبدالله بن بخيت و مليحة الشهاب. لقد سُطر بمنتدى الشبكة الليبرالية كتابات رائعة وجريئة ذات ثقافة عالية أحدثت نقلة نوعية في الحراك الثقافي عاماً والليبرالي تحديداً فكان صالونا ادبيا رفيعاً .

ولكن في عام 2011م توقفت الشبكة الليبرالية السعودية "الى أجل غير مسمى" !! حتى أصدرت المحكمة  العامة بجدة في عام 2014م أمراً بإغلاق الموقع نهائياً . ويلاحظ ان الليبراليون السعويون لم يستقر بهم الترحال في دار واحدة تجمع كلمتهم!! في حين أن"التيار الأصولي أو الراديكالي المحافظ" استقر بهم الحال في الساحات منذ بدايته فبرزت أقلام مازلت خالدة في ذاكرة الكثيرين الي اليوم ، ومن أبرز كتاب (الساحات) الخفاش الأسود، فتى الأدغال، لويس عطية الله، دجلة والفرات وآخرون معتدلون نسبيا مثل د. إستفهام و هيغل وغيرهم. يحسب لمنتدى الساحات أنه إستقطب كتاب يكتبون باسمائهم الصريحة مثل محمد الحضيف، محسن العواجي، محمدالرطيان، مشاعل العيسى، قمراءالسبيعي ونورةالسعد. وفي المقابل ، ابرزت الساحات كُتاب ليبراليون اجتمعنا بهم لاحقاً في الشبكةالليبرالية مثل نصري، رنة وتر،الزئبقي، فيصل رضي الله عنه، نمربن عدوان، البربهاري ، معروف وغيرهم.

لقد كانت  فراشة الليبرالية السعودية (و مازالت) في طور الشرنقة,  تتكون ببطء رغم محاولات إجهاضها المستمرة. ولكننا للأسف نجد  أن غالبية رموز هذا التيار بشقيه السياسي  والثقافي لا يمتلك روح النضال في سبيل هذا المبدأ بل أن العديد من الرموز تنفي عن نفسها مسمى "ليبرالي سعودي" باستثناء  قلة قليلة جداً مثل تركي الحمد و عبدالرحمن الحبيب (لدرجة أن تركي الدخيل قال في أحدى المرات ببرنامج أضاءات: " كل ماسألنا واحد انت ليبرالي قال ماني بليبرالي ..أجل منهو الليبرالي.."!!؟

يبدو أن الولادة المتعسرة للتيار الليبرالي في السعودية عائد لوجودها بين أكثر البيئات المحافظة  في العالم (conservative society) بالذات أن هذا المجتمع قد تربى عقوداً في محاضن فكرية متطرفة  ليستمر في التصدي لأي مشروع  تنويري جديد.

ومع هذا فالليبرالية تعاني في أصلها من اضطراب في صياغة مفهومها, لأنها مشبعة بمضامين فكرية وفلسفية متقدمة تتقاطع مع مفهوم تيار سلفي رجعي متصلب يلغي حتى العقل في حضرة النقل ولو كان ضعيفا. أضف الى ذلك  أن معظم مفاصل الدولة من تربية و تعليم و قضاء ومساجد وسلطة دينية وافتاء و دعوة  وإرشاد كلها تسير من خلال تيار ديني متطرف فتجد أن القضايا الحقوقية مثلاً بين التيارين يكسبها  التيار الديني وما قضية رائف بدوي عنا ببعيد..

كما أن التيار الليبرالي السعودي قد نشأ في ظل هيمنة التيار المتطرف على مفاصل الحياة الاجتماعية والتربوية والاعلامية وبالتالي كسب "الصحويون" الرأي العام في اول جولة ضد  اليبرالية والعلمانية وحتى  ضد الحداثيون في الأدب !! فقامت بحملة تشوية لمسمى الليبرالية ليصبح مرادفاً للعمالة والعهر والرذيلة !!

في حين أن "بنو صحيون" قد نسوا أنهم أول من باع شرفهم في حضرة السياسي وأن التطرف والإرهاب لم يولدا إلا سفاحاً بعد أن إلتقى عهر الساسة بشبق رجال الدين ..
لقد نسي هؤلاء أن الأنظمة الليبرالية في دول الغرب  هي التي جعلتهم يعيشون مُنَعمين ومُكرمين ،  ولولا تلك المفاهيم الليبرالية  وفلسفتها الإنسانية لما تمتعوا بحرية الإعتقاد ومكنتهم من بناء مساجدهم وممارسة شعائرهم في عزة ورفعة و منعه .